على الطريق بين القرآن الكريم والعلوم العصرية اتخذ أقوام مسلك الحديث عن الإعجاز العلمي والتفسير العلمي لآيات القرآن الكريم، على الاختلاف بين المصطلحين ومضمونهما، وكان الشيخ طنطاوي جوهري الملقب بحكيم الشرق من أبرز من سلك هذا المسلك في بداية القرن المنصرم، حتى اعتُبر رائد التفسير العلمي، وفيما يخص الإعجاز العلمي فقد برز الدكتور زغلول النجار كواحد من أشهر الدعاة له وبه، وهذا المنهج في التعامل مع القرآن ينكره بعض الناس، ويتحفظ عليه آخرون، ولهؤلاء وأولئك حججهم، غير أنني لا أنوي هنا أن أناقش حجج المؤيدين والمعارضين أو المتحفظين، فليس هذا مجال الحديث هنا، ولست لهذا الحديث بأهل. منهجان.. لا منهج واحد
لكنني ألفت النظر في مقالي هذا إلى منهجين مختلفين في إقامة العلاقة بين القرآن والعلوم العصرية:
- المنهج الأول هو منهج الإعجاز المعروف: وفي هذا المنهج ينطلق المتحدثون مما انتهت إليه فروع العلوم العصرية المختلفة من حقائق علمية، ليعودوا بها إلى القرآن مدللين بها على إعجاز القرآن من قبل ألف وأربعمائة عام في إتيانه بتلك الحقائق في أخصر عبارة وأيسرها، يفعلون ذلك: إما دفاعًا عن القرآن في وجه مهاجميه، أو هداية إليه ودلالة عليه وعلى دين الإسلام في عصر ساده العلم.
- أما المنهج الثاني فهو الذي أسميه منهج الإيقاظ: وفي هذا المنهج ينطلق المتحدثون من آيات الأنفس والآفاق في القرآن الكريم، مستخرجين منها ما فيها من إشارات علمية، وجاعلين من تلك الإشارات حافزًا أو موقظًا للمسلمين في مسيرتهم نحو النهضة من خلال العلوم العصرية (وهو منهج الشيخ طنطاوي جوهري كما سنرى)، أو متخذين من تلك الآيات دليلا على وجود الله موقظين بذلك الإيمان به وبقرآنه في نفوس المسلمين (وهو منهج الدكتور عبد الرزاق نوفل في كتابه "القرآن والعلم الحديث"، والدكتور مصطفى محمود في برنامجه الشهير "العلم والإيمان").
الفرق بين المنهجين
هناك عدة فروق بين منهجي الإعجاز والإيقاظ:
أولا في المنطلق والاتجاه:
القرآن
العلوم العصرية
منهج الإيقاظ
منهج الإعجاز
|
|
- فالإعجاز كما قلنا ينطلق مما يعده "حقائق" العلوم العصرية إلى آي القرآن الكريم بقصد الدلالة على إعجاز آية، أو بقصد الدعوة إلى القرآن والإسلام من مدخل العلم، وهنا لا بد من وقفة أؤكد فيها على ضرورة وجود ضوابط لهذا المنهج من جهتين؛ الأولى: في التعامل مع المعلومة العلمية من حيث درجة ثبوتها، وهل هي مجرد فرضية أم نظرية أم حقيقة علمية مقررة لا نقض فيها ولا إبرام؟ أما الثانية: فهي في التعامل مع آيات القرآن الكريم فلا ينبغي لمتخذي هذا المنهج سبيلا أن يلووا أعناق الآيات بما يُخرجها عن معاني ألفاظها في لغة العرب لتتوافق مع ما يرونه.. وإن كنا نؤمن -كما قال الإمام حسن البنا في معرض تناوله لتلك القضية- بأن الله "يسوق في قرآنه التعبير سوقا عجيبا معجزًا في مرونة عبارته ودقة إشارته حتى إنه ليساير بحق تطور العقل الإنساني في كل زمان ومكان"، أو كما قال أستاذنا الدكتور سيد دسوقي "في هذا الحشد الرائع للآيات الكونية في آي الذكر الحكيم يتدثر الإعجاز المذهل.. الذي يصف الكون بألفاظ عربية تستطيع الأجيال المختلفة أن ترى فيها اتساقا لا يتعارض مع علوم عصرها الثابتة ومشاهدات أزمانها الدقيقة في الكون والإنسان".
لكن الإشكالية أن تلك الحقائق العلمية التي نقول إن القرآن أشار إليها بلفظه المعجز منذ 14 قرنا لم يصل إليها المسلمون بالرغم من تلك الإشارات، وإنما وصل إليها غيرهم، ثم ذهبنا نحن لنقول: إن هذا من إعجاز القرآن.. لا بأس.. القرآن معجز نعم، لا مراء في ذلك.. لكن المسلمين في عصرنا هذا عاجزون عن الولوج في هذه الثنائية، لا مراء في ذلك أيضا، فلا هم استفادوا من تلك الإشارات علمًا، ولا هم ساهموا في الوصول إلى حقائق تلك العلوم التي يتفاخرون بأنها تدلل على إعجاز القرآن!.
- وهنا يأتي منهج الإيقاظ والذي ينطلق من آيات القرآن في الأنفس والآفاق إلى حقائق تلك العلوم العصرية دافعا وحافزا للمسلمين على النهضة وسلوك سبل تلك العلوم كما سلكها غيرهم في سبيله لتحقيق النهضة، ومن ثم فإنه يدعو المسلمين إلى الاستفادة مما ورد في القرآن من إشارات لكي يساهموا في تلك العلوم العصرية بنصيب، يكون لهم معه حق العودة من تلك العلوم إلى القرآن ليدللوا بذلك على إعجازه.
ثانيا في الدلالات والملابسات:- فمنهج الإيقاظ جاء دفاعا عن كيان الأمة واستنهاضا لها في وجه الغزوة الاستعمارية حتى إنه جاء مقترنا بدعوات وحدة المسلمين، يقول الشيخ طنطاوي جوهري: "أيها المسلمون إنه لينقصكم أمران: الاتحاد والعلوم، فإذا اتصفتم بهما تم وعد الله لكم في الأرض بالاستخلاف والتمكين في الأرض"، كما جاء في سياق انشغال مفكري الأمة عن سبل شتى لتلك النهضة في ظل استعمار أوروبي لكل أو جل العالم الإسلامي.
- أما الوجه الآخر لمنهج الإيقاظ (إيقاظ الإيمان وإثبات وجود الله وخلقه للوجود) فقد جاء في فترة سادت فيها دعوات الإلحاد في ظل تمكين الدولة المصرية للملحدين الذين انتشروا في وسائل الإعلام هنا وهناك، وهو وجه يتفق على الأقل في مسألة إيقاظ الإيمان مع دعوات القرآن للمؤمنين بالتفكر والتدبر والسير والنظر.
- أما منهج الإعجاز فإنه يأتي ليستكمل منهج الإعجاز الذي ساد الحديث عن القرآن من وجوه عدة.. لغوية في الأساس، لكنه شاع وذاع وصار حديثًا لطلاب الدين وطلاب الدنيا ممن يريدون الشهرة والمال في وقت صار التدين "سلعة" وبضاعة رائجة، والاستثمار فيما يدغدغ مشاعر المتدينين بضاعة أروج. كما أنه شاع في وقت احتاجت فيه الأمة إلى الثقة في منهجها وإسلامها وكتابها بعدما تكاثرت فيه الهزائم والانكسارات عليها من بعد حصول بلدانها على استقلال متوهم لم يثمر نهضة كانت وما تزال مرتجاة.
طنطاوي جوهري ومنهج الإيقاظ
اشتهر الشيخ طنطاوي جوهري في كتب علوم القرآن، بأنه رائد التفسير العلمي للقرآن، وذلك من خلال تفسيره "الجواهر"، إلا أنني أجد أن كتابه "القرآن والعلوم العصرية.. خطاب إلى جميع المسلمين"، وهو كتاب صغير الحجم (88 صفحة من القطع المتوسط) قليل الشهرة، يكشف عن وجهة أو منهج الشيخ الإيقاظي لا الإعجازي في الربط بين القرآن والعلوم العصرية.
في هذا الكتاب يؤكد الشيخ على "أن الله وعد بالاستخلاف الأمة الإسلامية الناظرة في ملكوت السماوات والأرض، المفكرة فيما خلق الله، المتعلمة كل صنعة وحرفة، حتى لا يفوتها صنعة من المدفع إلى الإبرة، ومن القطار إلى المنشار، ومن علم الطبيب والبيطار إلى صناعة الموسيقار"، ويقول: "إن الجهاد كما نص عليه علماء الفقه لا يخص حرب العدو، بل يشمل سائر الأعمال العامة، فترقية الصناعة والزراعة ونظام المدن، وتهذيب النفوس، وإعلاء شأن الأمة، كل ذلك جهاد لا ينقص عن توجيه البندقية والمدفع إلى صدر العدو".
ثم يمضي ليؤكد على رسالته الإيقاظية من خلال الحديث عن العلوم المختلفة، فتحت عنوان "فصل في طلب علم الفلك: يسوق عددا من آيات القرآن التي تتناول الأفلاك، ثم يقول تعليقا: "(وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) تنويه بأن هذا من العلوم المطلوبة الواجبة وجوبا كفائيًّا، فهو يقول: نظمت الشمس والقمر في منازل معلومة لتعلموا عدد السنين والحساب، ولا ريب أن علم الفلك لن يعرف إلا إذا تقدمه علم الحساب والجبر والهندسة... وعندي أن أعجب العجائب علم الفلك، فعار على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يجهلوا هذا العلم بعد أن زين الله لهم السماء وأبان النجوم وأجملها وأبهجها".. وهكذا يمضي مع القرآن فيتحدث عن تشويقه المسلمين للعلوم، وعن تفسير قوله تعالى: "الله الذي خلق السماوات والأرض"، ثم عن آيات وصف السحاب وعجائبه، وفي علم النبات، والبحار والحشرات وفي وصف الحيوان، ثم يدخل من مدخل قوله تعالى: "وانظر إلى حمارك" إلى وجوب علم التشريح، ثم يمضي هكذا يتحدث في الطير... إلخ.
وعلى الرغم من منهج الإيقاظ الواضح في كتاب الشيخ، والذي ما فتئ يؤكد فيه على معنى فرضية تلك العلوم فرض كفاية "أجمع علماء الإسلام على أن العلوم جميعها والصناعات فرض كفاية.. فحرام على المسلمين أن يكون في الأرض علم وهم ناقصون فيه"، إلا أن منهجه ذهب أدراج الرياح، ولم يبنِ عليه من جاءوا بعده، بل إنهم أغرموا بمنهج الإعجاز أكثر من غرامهم بمنهج الإيقاظ، وكأن المسلمين ما بقي لهم في الأرض علم من علومها هم فيه ناقصون، وكأنهم اكتملوا في كل تلك العلوم وما ينتج عنها من نهضة في كل مناحي الحياة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.