بقلم الدكتور كارم السيد غنيم الأستاذ في كلية العلوم جامعة الأزهر
أمين عام جمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
الدكتور أحمد أبو الوفا عبد الآخر
أستاذ في جامعة الأزهر
بداية، نذكر بالفرق بني التفسير العلمي والإعجاز العلمي قبل أن ندخل إلى بيان عن الفوائد والأهداف التي تتحقق منهما.
أما التفسير العلمي: فهو انتفاع المفسر بما ظهر في عصره من معلومات كونية في تفسير الآيات القرآنية.
وأما الإعجاز العلمي: فهو الحقيقة الكونية التي يؤول إليها معنى الآية القرآنية ويشاهد الناس مصداقها في الكون.
مما سبق نرى أنه لا فارق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي سوى في التعبير الذي يصاغ به تعريف كل منهما. فمن يقبل أحدهما فعليه إذن أن يقبل الثاني. وإن كان في التفسير العلمي تستخدم المعلومات الكونية، فإن في الإعجاز العلمي تجري مطابقة الحقيقة الكونية على الإشارة العلمية التي تشير إليها الآية القرآنية.
فوائد دراسة الإعجاز والتفسير العلمي للقرآن الكريم
1) دراسة ظاهرة الإعجاز العلمي كحقيقة علمية وواقع ثقافي:
دون النظر إلى الفوائد الكثيرة التي تتحقق من دراسة الإعجاز العلمي وقبوله، فإن الداعي إلى المطالبة بذلك هو حتمية التعامل مع الإعجاز العلمي كظاهرة قرآنية وحقيقة عقلية ومن صفات القرآن، فكيف يتغافل المسلمون عن ذلك كله، وكيف لا ينظر العلماء إلى الإعجاز العلمي على أنه داخل في علوم القرآن، خاصة وأنهم مطالبون بالاهتمام بكل ما يخص القرآن الكريم، معجزة الإسلام الخالدة.؟!
وإذا كان بعض كبار علماء الغرب أمثال: بوكاي، ومور، وجارودي، وتاجاسن، حريصون على التعرف على الإعجاز العلمي وعلى دراسته من منطلق عقلاني، فهل يكون علماء الأمة الإسلامية أقل حرصاً ؟ وهل من المعقول أن ينكر بعضهم ذلك الوجود الثقافي والفكري للإعجاز العلمي وأن يتغافلوا عن حقيقته العقلية ؟
2) تجديد بينة رسالة الإسلام وأسلوب الدعوة:
إذا كان المعاصرون لرسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أدركوا وجه الإعجاز البياني للقرآن وشاهدوا بأعينهم كثيراً من المعجزات الحسية عنه صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى شاء أن يُرى العصور التي تسود فيها الثقافات العلمية والكونية وجهاً آخر من وجوه الإعجاز القرآني وهو "وجه الإعجاز العلمي" الذي يناسب فكر البشر في هذه العصور، وبذلك تتجدد بينة رسالة الإسلام، وتقوم عليهم حجة القرآن بما أدركوه فيه من الإعجاز المناسب لعقولهم، وأصبح كل الناس – على اختلاف لغاتهم وأجناسهم وأوطانهم – مدعوون للنظر في هذه البراهين، ومطالبون بالاقتناع بها، وبالتالي هم مطالبون بالإيمان بمعجزة القرآن. وبهذا تصبح تلك البراهين إلى جانب الأدلة المستمدة من عقيدة التوحيد في التشريعات والأخلاقيات والسلوكيات الإسلامية ألسنة الدعوة ومصابيح للهداية إلى دين الإسلام. أضف إلى ذلك ما يحدثه وجه الإعجاز العلمي من الثقة وزيادة اليقين لدى المسلمين الذي فتنوا في دينهم بالعلوم الكونية، التي هي عماد تقدم الحضارة المادية المعاصرة.
3) التوسع في فهم القرآن الكريم:
لا شك أن استخدام المعلومات والمعارف العلمية في تفسير آيات القرآن الكريم سيجعل معاني الآيات، خاصة آيات القرآن الكونية أكثر وضوحاً، وربما أكثر صواباً من تلك التفاسير التي أكثرت من الاعتماد على الفهم المجازي وعلى صرف الآيات إلى أحداث يوم القيامة.
وسيظل تفسير آيات القرآن الكريم كما هو، حسب النمط التقليدي، غير أنه سيضاف إليه التفسير العلمي – أي تفسير الآيات على ضوء المعلومات العلمية – وبهذا تتسع دائرة فهم القرآن الكريم كما تدرك الحكمة من بعض التعاليم والتشريعات الواردة بالقرآن الكريم، مما يضيف إلى القبول التعبدي لها قبولاً عقلياً، ولاشك أن القبولين معاً أدعى للالتزام عن قبول واحد.
والأمثلة على ما ذكرنا كثيرة، ويسهل الإلمام بها بمطالعة التفاسير التي أضافت في هوامشها تفسيراً علمياً لبعض الآيات، ومن أشهرها ( تفسير المنتخب ) الصادر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بجمهورية مصر العربية.
وسنكتفي بذكر ثلاثة أمثلة فيما يلي:
·يقول الله سبحانه وتعالى: ( إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير. ) [ سورة البقرة ]
وفيه أضاف التفسير العلمي ما يلي: ( سبق القرآن الكريم الطب الحديث بتحريم الميتة لأن ما يموت بشيخوخة أو مرض يكون موته بسبب مواد ضارة تلحق الأذى بمن يأكل لحوم هذه الحيوانات )
·يقول الله سبحانه وتعالى: ( هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً ) [ سورة يونس ]
وفيه يقول المفسّرون: ( الله الذي جعل الشمس تشع الضوء والقمر يرسل النور ) وأضاف التفسير العلمي: ( ما يصدر عن الشمس فهو ضياء وما يصدر عن القمر فهو نور هكذا جاء التعبير القرآني الدقيق. ذلك لأن الضوء نور ذاتي، ينبعث من جسم مشع له بفعل الحرارة النارية المتوقدة من الجرم السماوي كالشمس، أما النور فهو غير ذاتي، لأنه صدر عن جسم بارد معتم وقع عليه ضوء الشمس فانعكس منه على الأرض دون أن يحمل شيئاً من حرارة الضوء وذلك الجرم السماوي هو القمر )
·يقول الله سبحانه وتعالى: ( قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ) [ سورة يوسف ]
قال المفسرون: ( تزرعون سبع سنين دائبين على العمل في الزراعة فما تحصدونه احفظوه في سنبله إلا ما تأكلونه )
وأضاف التفسير العلمي: ( ثبت علمياً أن ترك الحب في سنبله عند تخزينه وقاية له من التلف بالعوامل الجوية والآفات )
وبعد فهذا هو نمط التفسير العلمي وهذا منهجه، فهل هناك ما يدعو إلى الاعتراض عليه أو التشكيك فيه اللهم إلا سوء الفهم أو سوء القصد.
4) الدوافع الإيمانية نحو البحث عن الحقائق الكونية:
إن تدبر آيات القرآن الكونية وإنعام النظر في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم سوف ينشط المسلمين بدافع إيماني، ويرغبهم في الإقبال على البحث في الحقائق الكونية، ودراسة سنن الفطرة، وتسخير الاكتشافات فيما ينفع ولا يضر. وبهذا يصبح الإعجاز العلمي للقرآن الكريم من أهم العوامل الإيمانية التي تولد الرغبة لدى المسلمين في الإقدام على الدخول في مجالات البحوث والدراسات والاكتشافات الكونية.
المنهج الإيماني للدراسات الكونية
إنه يربط الدراسات الكونية بآيات القرآن الكريم وما بها من إشارات وحقائق علمية، يمكن وضع "المنهج الإيماني للدراسات الكونية" وبذلك يعيش المسلم على الدوام في محراب الإيمان بالله، ومحراب العلم والتجريب. فيزداد بالمعارف والاكتشافات يقيناً بالله سبحانه وتعالى وتعظيماً وطاعة له، فهو سبحانه القائل: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء )[ سورة فاطر ]
ولبيان المقصود من المنهج الإيماني للدراسات الكونية نقدم ما يلي:
1) آيات القرآن الكريم:
قال الله سبحانه وتعالى: ( الذي جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون) [ سورة الزخرف ]،
وقال سبحانه وتعالى: ( الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً) [ سورة طه ]
وقال سبحانه وتعالى: ( والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً ) [ سورة نوح ]
. أي أن القرآن الكريم يعبر في جملة من الآيات عن مظاهر تضاريس القشرة الأرضية، وذلك في إشارات علمية عامة، وشاملة ومطلقة ودقيقة وصادقة، عرضنا منها تلك الآيات.
2) آراء أصحاب الفضيلة المفسرين:
عن الآية الأولى يقول المفسرون: ( الله الذي ربط الأرض وجعلها لكم كالفراش تستقرون عليها وتقومون وتنامون وجعل لكم فيها طرقاً تسلكونها في أسفاركم ) وعن الآية الثالثة يقول المفسرون: ( مهدنا الأرض لتستقروا عليها )، وعن الآية الخامسة يقول المفسرون: ( والله جعل لكم الأرض نسيجه ممتدة ممهدة لكم، تنقلبون عليها كما ينقلب الرجل على بساطه. وشبه الله الأرض كالبساط في امتداده واستقرار الناس عليها )
· قشرة الأرض هي الجزء الرقيق منها والذي مهده الخالق الأعظم سبحانه وتعالى ليكون صالحاً للحياة، وهي الجزء الخارجي البارد نسبياً، والذي يختلف عن الجزء الداخلي للأرض. والاصطلاح في معناه العام يرادف الغلاف الصخري " الذي هو في الواقع عبارة عن طبقة رقيقة مفككة تعرف ( بالتربة ) وكتلة من الصخور الصلبة، أو ما يعرف بالجبال ترصع هذه القشرة هنا وهناك وتنغرس في القشرة الصخرية أسفل التربة.
ويبرز وجه القشرة الأرضية من خلال الغلاف المائي في هيئة قارات، ويغطي معظم سطح القارات ( أي اليابس ) غشاء هش رقيق يسمى التربة ويختلف في سمكه من مكان إلى آخر، ولم تكن قشرة الأرض في بادئ تكوين الأرض في الماضي السحيق بهذا التمهيد الذي أشارت إليه الآيات القرآنية – فضلاً من الله على الإنسان وغيره من المخلوقات التي تعيش على الأرض- وإنما كان مسطحاً وعراً متضرّساً في ضراوة وقسوة. ولكن الخالق سبحانه وتعالى سخر عوامل التعرية لقشط القشرة الأرضية، وتسويتها وقد وصلت إلى ما وصلت إلهي من وجود طبقة رقيقة وناعمة عن طريق ما يعرف بالتجوية ( weathering ). وهذه العوامل التي سخرها الخالق الأعظم سبحانه وتعالى للتخفيف من وعورة سطح القشرة وتمهيده وبسطه تظل تعمل حتى تصل إلى ما يسمى. ( النقطة الحرجة ) لقانون التوازن الذي وضعه الله سبحانه وتعالى وعندما تصل عوامل التعرية إلى هذا الحد تتوقف.
وهناك عوامل تسمى ( حركات القشرة ) تنشط لتعيد التوازن وذلك بخفض المناطق التي ارتفعت وثقل وزنها بملايين الأطنان من المواد الأرضية التي نقلتها عوامل النقل والترسيب المختلفة. عندئذ يصدر الأمر الإلهي لعوامل التعرية بالبدأ في إجراء دورة أخرى لإعادة تشكيل سطح الأرض " جيومورفولجيا". وهكذا تتحرك العوامل المختلفة في الوقت المناسب بإذن خالقها سبحانه وتعالى لتظل الأرض مهداً وفراشاً وبساطاً، كما أشارت الآيات القرآنية.
· ومن أهم أشكال الفراش القشري للأرض:
السهول: وهي كل أرض مستوية نسبياً، تخترقها الأنهار فيما يسمى السهول الفيضية. وقد شهدت السهول الفيضية استقرار الإنسان منذ فجر التاريخ على ضفاف الأنهار والسهول قليلة الارتفاع، بحيث لا تزيد عن 1550 قدماً فوق سطح البحر.
الهضاب: جمع هضبة وهي الأرض العالية نسبياً المستديرة المنبسطة أو شبه المنبسطة، وقد تجري فيها الأنهار وهي صالحة للحياة عليها
الوديان: الجزيء المنخفض من الأرض تحف به المرتفعات من الجانبين، وهي أرض منبسطة تصلح للحياة عليها.
وبذلك نكون قد تعرفنا جغرافيا على قشرة الأرض، وهي الجزء الرقيق منها الذي مهده الله سبحانه وتعالى ليكون صالحاً للحياة، وجعله مهداً وبساطاً وفراشاً للإنسان. ونكون قد قدمنا لدراسته بالمنظور الإيماني، وربطنا الدراسة بآيات القرآن الكونية. وهذا هو ما يعرف "بالمنهج الإيماني للدراسات الكونية " ويمكن اتباعه في شتى العلوم، وفي الدراسات الكونية المختلفة.
البحث والتطبيق
تحمل الآيات الكونية القرآنية إشارات وحقائق علمية، وقد أمكن مطابقة كشوف كونية على ما جاء بعضها. لهذا فقد أصبح من المفيد التوجه بالنظر فيها وبالبحث والدراسة واستكشاف ما بها من حقائق علمية، وهذا هو ما نقصده من قولنا " الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في مجال التطبيق " فكما أن المسلمين مطالبون أيضاً بدراسة الأمور الشرعية الواردة بالقرآن الكريم والعلم بها، فهم مطالبون أيضاً بدراسة الأمور الشرعية الواردة بالقرآن الكريم والعلم بها، فهم مطالبون أيضاً بالبحث عما في القرآن من إشارات علمية ودراستها – ضمن مطالبتهم بتدبره والتعمق في فهم آياته – كما قال سبحانه وتعالى: ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكّر أولوا الألباب ) [ سورة ص ] ونحن ندعو علماء الأمة الإسلامية، بل بكل علماء العالم المتخصصين في العلوم الكونية، إلى الاهتمام بذلك الأمر.
وبهذا التحرك العلمي لا يقف المفسرون للقرآن تفسيراً علمياً عند مرحلة استخدام المعارف الكونية التي سبق الكشف عنها، بل إنهم يبادرون – علماء اللغة العربية والمفسرون وعلماء الكونيات – إلى تدبر آيات القرآن الكونية واستخراج ما بها من معارف علمية، سواء بالدراسات النظرية، أم بالبحوث التجريبية وبذلك تتحقق أمور ثلاثة:
( الأول ) أن يصبح القرآن الكريم مصدراً لمعرفة علوم الفطرة ( العلوم الكونية )
( الثاني ) أن لا يظل فهم آيات القرآن الكونية على الدوام تابعاً للمعارف الكونية التي يتم التوصل إليها من خارج القرآن.
( الثالث ) أن يصبح الإعجاز العلمي أكثر إشراقاً وأكثر واقعية، ويخرج عن المرحلة النظرية والمعنوية إلى المرحلة العملية والحسية.